أخذ رحمه الله يمثل لهذا الأصل الواضح؛ يقول: "ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لـ
عبد الله بن أبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان".
وقد قال عنه
سعد: (قد جئت يا رسول الله وإنهم لينظمون له الخرز ليتوجوه) فكان أهل
المدينة على وشك أن ينصبوه ملكاً على
المدينة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وكان في قدومه تحطيم للأصنام والطواغيت من طواغيت اليهود ومشركي العرب؛ فأضمر الكفر وأظهر الإسلام، وأخذ يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ومع ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم.
وما أشد نكاية
ابن أبي وصنعه..!
ومن ذلك موقفه الشنيع في حادثة الإفك؛ فهو الذي تولى كبره.
يقول شيخ الإسلام عن
عبد الله بن أبي: "فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل أصحابه"
وكثيرة هي العبر من موقف النبي صلى الله عليه وسلم من
عبد الله بن أبي ابن سلول؛ فهذا الرجل إن سالمه النبي صلى الله عليه وسلم كسبت الدعوة أولئك الأتباع الذين يرون في هذا الرجل الأهلية للملك، لولا أن جاء من هو أفضل منه، وسكت
عبد الله بن أبي لأنه لا يستطيع أن يعارض هذا القادم وهو رسول الله.
وكان
عبد الله بن أبي في كل جمعة يقوم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخطب الناس ويقول: أيها الناس إنكم كنتم فقراء فأغناكم الله، وكنتم أذلة فأعزكم الله، فاتبعوا هذا الرسول.
يثني على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعله يوماً ما تقتل قريش النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون له الملك من بعده، وهذا هو ظن السوء الذي يظنه المنافقون في كل زمان ومكان؛ يظنون أن الدعوة سيقضى عليها وستموت.
فصبر عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أتباع
ابن أبي يقولون: هذا قائدنا وزعيمنا يحث على الدين وعلى الإسلام، وعلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخذ هؤلاء يدخلون في دين الله تعالى.
فـ
عبد الله بن أبي يقول الكلام نفاقاً لا حقيقة، ولكن الأتباع يسمعونه على أنه حق وصدق، فيدخلون في الدين.
ولذلك لما جاء يوم
أحد استشاره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نبقى في
المدينة، فإذا قدموا علينا رميناهم من فوق الأسطح وقاتلناهم في الطرقات، وقال الشباب: بل نخرج كما خرجنا في يوم
بدر .
والموضوع الذي استشاره فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع خطير جداً يتعلق بحماية
المدينة، وقتال هؤلاء المشركين.
وإن لم يؤخذ بعد ذلك؛ فالشاهد أنه استشير وسُمِع كلامه، وكأن الأمر يهمه ويعنيه، لأنه إذا خرج سيخرج معه قوم، وإذا انسل سينسل معه قوم؛ لأن هناك من يتبع هذا الرجل على ظاهره، ولا يعلم ماذا يخبئ في نفسه من النفاق، فالنبي صلى الله عليه وسلم قارن بين المصلحتين أيهما أرجح.
كذلك قال صلى الله عليه وسلم: {
لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} سينفر الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل أصحابه، فقبائل غطفان وبنو تميم وثقيف وغيرهم ممن في
الجزيرة قد سمعوا بهذا الرجل وأنه كان زعيم الأنصار، وأنه دخل في دين محمد، ولا يعلمون أنه منافق، ولا يعلمون الفرق بين منافق وغير منافق، هم كفار سمعوا أنه دخل في الإسلام، وأنه كان عظيماً في قومه، فكيف إذا سمعوا بعد ذلك أن محمداً قتله؟!
إنَّ قتله سيجعل زعماء القبائل لا يقدمون على الإسلام، ولا يأمنون جانب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا سمعوا أن من دخل في دينه يكرم ويعزز وتكون له المنزلة، فإنهم سيقبلون على هذا الدين، كما كتب
الوليد بن الوليد إلى أخيه
خالد يقول: إن رسول الله ذكرك، وقال: أبطأ علينا
خالد، فيحدث
خالد نفسه: إذاً لو أسلمت لكان لي عند هذا الرجل منزلة ومكانة؛ فيأتي ويسلم، ويكون قائداً في فتح
مكة، فحين يشعر الناس أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلم لن يضيع أهل الشأن، بل سوف يجعلهم في مراتبهم ومنازلهم، فإنهم يسارعون إلى الإسلام؛ بخلاف ما لو تسامعوا أنه يقتل أصحابه، ويقتل زعماء الأقوام الذين يدخلون في دينه، فإنهم عند ذلك سينفرون.
فالمصلحة موجودة، والمفسدة أيضاً موجودة، وهي وجود هذا المنافق.
وما أدى إليه نفاقه من الأضرار والمصائب معلوم، لكن أي المصلحتين كانت أرجح؟! كانت المصلحة في بقائه أرجح من قتله.
يقول: "ولهذا لما خاطب الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه، وقال له
سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه، حمي له
سعد بن عبادة مع حسن إيمانه" فلهذا الرجل أنوف ترم، وحمية تثور، فلما كانت قصة الإفك الذي تولى كبره
ابن أبي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {
من يعذرني في رجل افترى على أهل بيتي} وكان الموقف المفترض أن يقتله أي إنسان فضلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قال
سعد بن معاذ كلمته المشهورة قام
سعد بن عبادة قال: والله لا تفعل -لأنه من الخزرج- فقال له
أسيد بن حضير ابن عم
سعد بن معاذ: أنت منافق.
فإذا كان هذا الرجل -وهو
سعد بن عبادة - ليس من المنافقين، بل من السابقين إلى الإسلام، ومع ذلك قد دافع عن أحد المنافقين، فكيف بالمنافقين وبالقبيلة؟! ستصبح
المدينة حزبين متحاربين، حزباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر مع
عبد الله بن أبي الذي كان يلحن بما يدل على ما في قلبه من البغض والكراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مثل قصة تأذيه من مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى أقوام مسلمين ومشركين كانوا معه بحماره، ومثل قوله: لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها منا، حتى وقف له ابنه بباب
المدينة، وأقسم: لا يدخلها إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من الحوادث التي يظهر فيها نفاقه، ويصل بها شره إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، لكن مع ذلك كانت المصلحة الراجحة في الإبقاء عليه.